إغراق المدمّرة الإسرائيلية “إيلات”: لحظة فارقة في تاريخ الحروب البحرية الحديثة

في مثل هذا اليوم، تحلّ ذكرى واحدة من أبرز العمليات العسكرية البحرية في التاريخ الحديث، والتي غيّرت موازين الفكر الاستراتيجي البحري على مستوى العالم. إنها عملية إغراق المدمّرة الإسرائيلية “إيلات” على يد البحرية المصرية في 21 أكتوبر عام 1967، بعد مرور أشهر قليلة على هزيمة يونيو 1967 ، في حدث حمل أبعادًا عسكرية وتكنولوجية وسياسية عميقة لا تزال آثارها ممتدة حتى اليوم.

أصل السفينة وموقعها في الأسطول

كانت المدمرة واحدة من أبرز قطع الأسطول الإسرائيلي في تلك الحقبة. في الأصل كانت مدمّرة بريطانية تُعرف باسم “HMS Zealous” من فئة “Z-Class” تم طُويرها خلال الحرب العالمية الثانية لخدمة البحرية الملكية البريطانية. دخلت السفينة الخدمة في عام 1944، وشاركت في مهام متعددة مع الأسطول البريطاني، قبل أن تُباع لاحقًا لإسرائيل في عام 1955، لتُعاد تسميتها إلى “إيلات”.

تميّزت المدمّرة بتصميمها الكلاسيكي الذي يجمع بين السرعة والتسليح القوي، حيث كانت مجهّزة بمدافع بحرية من عيار 114 ملم، ومدافع مضادة للطائرات، فضلاً عن أنظمة رادارية متطورة نسبيًا لتلك الفترة. ومع دخولها الخدمة في البحرية الإسرائيلية، أصبحت “إيلات” بمثابة العمود الفقري للعمليات السطحية، نظراً لسرعتها وقدرتها على التحرك لمسافات طويلة، واستخدمت في مهام مراقبة واستطلاع على طول السواحل المصرية.

السفينة البريطانية فئة "Z-Class"
السفينة البريطانية فئة “Z-Class”

السياق السياسي والعسكري بعد حرب 1967

جاءت عملية إغراق “إيلات” في مرحلة شديدة الحساسية من التاريخ الحديث. فبعد نكسة يونيو 1967، كانت مصر تسعى لإعادة بناء قواتها المسلحة واستعادة ثقة الجندي والشعب في قدرتهما على الرد. وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد بدأ بالفعل تنفيذ خطة إعادة تنظيم شاملة للقوات المسلحة، وجرى التركيز على رفع كفاءة الأسلحة البحرية بعد أن أدركت القيادة المصرية أن السيطرة على البحر المتوسط والبحر الأحمر تمثل عاملًا حاسمًا في أي صراع مستقبلي مع إسرائيل.

وفي خضم هذا المناخ المشحون، كانت المدمّرة الإسرائيلية “إيلات” تنفّذ دوريات استفزازية متكررة قرب السواحل المصرية، وبالتحديد أمام مدينة بورسعيد المصرية. كانت تلك التحركات تُعدّ خرقًا واضحًا لحدود المياه الإقليمية المصرية، كما كانت تمثل استعراضًا للقوة من جانب إسرائيل التي أرادت تأكيد سيطرتها على شرق المتوسط بعد الحرب. غير أن القيادة المصرية قررت الرد، ليس بردّ رمزي، بل بعملية تحمل دلالات عسكرية وسياسية كبرى.

دخول الصاروخ إلى ساحة المعركة البحرية

في ذلك الوقت، كانت البحرية المصرية قد حصلت حديثًا على زوارق صواريخ من طراز“كومار Komar” السوفيتية الصنع، وهي زوارق صغيرة الحجم ولكنها سريعة وخفيفة، ومزوّدة بصواريخ موجهة من طراز “P-15 Termit”. والتي كانت تُعدّ آنذاك سلاحًا ثوريًا في الحرب البحرية، إذ تمكّنت من الجمع بين المدى الطويل نسبيًا حتى 40 كيلومتر والرأس الحربي الضخم الذي يصل وزنه إلى أكثر من 500 كيلوجرام من المواد شديدة الانفجار. وكانت الميزة الأهم هي أن الصاروخ موجه بالرادار ويمكن إطلاقه من زوارق صغيرة دون الحاجة إلى سفن ضخمة أو طائرات.

مشهد اطلاق صاروخ "P-15 Termit" المضاد للسفن من زورق "كومار" السوفياتي
مشهد اطلاق صاروخ “P-15 Termit” المضاد للسفن من زورق “كومار” السوفياتي

رأت القيادة البحرية المصرية في هذا السلاح الجديد فرصة لاختبار قدرة مصر على استخدام التكنولوجيا الحديثة لتعديل موازين القوة البحرية. وتم وضع خطة محكمة لاستخدام زورقين من طراز “كومار” يتمركزان في ميناء بورسعيد، على أن يهاجما المدمّرة الإسرائيلية فور اقترابها من مدى الصواريخ.

من لحظة الرصد إلى لحظة الغرق

في مساء 21 أكتوبر 1967 ، كانت المدمّرة “إيلات” تقوم بدورية روتينية بالقرب من الساحل المصري، على مسافة تُقدّر بنحو 14 ميلاً بحريًا شمال شرق بورسعيد. التقطت أجهزة الرادار المصرية إشارات السفينة، وأُعطيت الأوامر بالتحرك الفوري. انطلقت الزوارق المصرية بسرية تامة، واستطاعت بفضل حجمها الصغير أن تقترب من مدى الاشتباك دون أن تُكتشف. عند الساعة الخامسة مساءً تقريبًا، أطلق أحد الزوارق أحد صواريخه باتجاه الهدف. أصاب الصاروخ جسم المدمّرة إصابة مباشرة مدمّرة ، أحدثت انفجارًا هائلًا وشوّهت جزءًا كبيرًا من هيكلها.

حاولت “إيلات” الابتعاد وإرسال إشارات استغاثة، غير أن الزورق المصري أطلق صاروخًا ثانيًا أكمل الضربة، فاشتعلت النيران في السفينة، وبدأت تميل على جانبها الأيمن. بعد دقائق، تم إطلاق صاروخ ثالث من زورق آخر ليصيبها إصابة قاضية، فانفجرت المدمّرة بالكامل وغرقت في غضون دقائق. مما أسفر عن مقتل نحو 47 من طاقم السفينة تقريبا ، وإصابة العشرات، بينما تمكّنت بعض القطع الإسرائيلية من إنقاذ من تبقى من الطاقم على قيد الحياة بعد أن غرقت السفينة تمامًا.

ولادة عصر الصاروخ البحري

شكّلت عملية إغراق “إيلات” لحظة فاصلة في التاريخ العسكري العالمي، إذ كانت أول مرة في التاريخ تُغرق فيها سفينة حربية بواسطة صواريخ موجهة تُطلق من زورق صغير. مما غيّر النظرة التقليدية إلى الحروب البحرية التي كانت تعتمد على السفن الضخمة ذات المدافع الثقيلة. ومنذ تلك اللحظة، بدأت جميع القوى البحرية في العالم بإعادة تقييم استراتيجياتها. أنشأت بعدها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ودول أوروبا برامج عاجلة لتطوير أنظمة دفاع صاروخية بحرية وأنظمة مضادة للصواريخ. كما بدأ سباق عالمي في تصميم زوارق صواريخ صغيرة وسريعة تُعد اليوم العمود الفقري للأساطيل الساحلية في العديد من الدول.

استعادة الكبرياء المصري

بعيدًا عن الجانب العسكري، كان للعملية وقعٌ نفسي وسياسي هائل في الداخل المصري والعالم العربي. فقد جاءت العملية بعد أشهر قليلة من هزيمة قاسية، لتعيد للمصريين الثقة في قواتهم المسلحة. ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطابًا بعدها أشاد فيه بشجاعة البحرية المصرية، مؤكدًا أن ما حدث ليس مجرد انتقام، بل بداية مرحلة جديدة من “حرب الاستنزاف” التي تهدف إلى استنزاف العدو ماديًا ومعنويًا.

أما على الصعيد الإسرائيلي، فقد تسبّب غرق “إيلات” في صدمة كبيرة للرأي العام، وبدأت القيادة العسكرية بإعادة التفكير في تكتيكاتها البحرية. وأُطلقت برامج عاجلة لتزويد السفن بأنظمة إنذار مبكر ودفاع مضاد للصواريخ، وهو ما غيّر شكل بناء السفن الحربية الإسرائيلية في السنوات اللاحقة.

ردود الفعل الدولية وإعادة صياغة العقيدة البحرية

لم يكن تأثير العملية محصورًا في الشرق الأوسط فقط، بل امتدّ إلى العالم بأسره. نشرت المجلات العسكرية الغربية تحليلات مطوّلة حول “الحدث الذي غيّر وجه البحر”. اعترفت تقارير حلف الناتو بأن استخدام الصاروخ الموجّه كسلاح رئيسي للسفن الصغيرة أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها. بدأت البحرية الأمريكية في إدخال تعديلات على تكتيكاتها، فيما طوّر الاتحاد السوفيتي سلسلة من الزوارق الصاروخية بناءً على نجاح التجربة المصرية، مثل طراز “أوسا” الذي انتشر لاحقًا في العديد من الدول. وهكذا، لم تكن عملية “إيلات” مجرد انتصار تكتيكي، بل كانت ثورة في مفاهيم الحرب البحرية ، وفتحت الباب أمام جيل جديد من الأسلحة والأنظمة الدفاعية.

الدرس الذي لا يُنسى

بعد أكثر من نصف قرن على تلك العملية، لا تزال ذكرى إغراق المدمّرة الإسرائيلية إيلات تُدرَّس في الأكاديميات العسكرية كنموذج للابتكار التكتيكي والاستخدام الذكي للتكنولوجيا في مواجهة خصم متفوّق عددًا وعدّة. لقد أثبتت مصر من خلال تلك الضربة أن الإرادة والعلم يمكن أن يصنعا معجزة عسكرية تغير مجرى التاريخ. وإذا كان القرن العشرون قد شهد بداية عهد الصواريخ في الحروب البرية والجوية، فإن يوم 21 أكتوبر 1967 كان لحظة ميلاد عصر الصاروخ البحري الذي ما زال يرسم معالم القوة البحرية حتى اليوم.

المصادر

  1. “Warship Eilat Is Sunk” — Center for Israel Education: مقالة تفصيلية عن الحادثة، مع بيانات حول الغرق والخسائر.
  2. “P-15 Termit” — ويكيبيديا: وصف تفصيلي لصاروخ مضاد للسفن الذي استُخدم في الحادثة، مع المواصفات.
  3. “Aftermath of the Elath” — U.S. Naval Institute Proceedings (أكتوبر 1969): تحليل بعدي للحادثة وأثرها على العقيدة البحرية.
  4. “Israeli Navy: The Navy Throughout Israel’s Wars” — Jewish Virtual Library: ملخّص لتاريخ البحرية الإسرائيلية يتضمّن الحادثة.
  5. “Israeli destroyer Eilat is sunk by the Egyptian Navy in 1967” — Egypt Today: تقرير إخباري مصري يلخّص الحادثة ومحيطها.
  6. “SS-N-2 STYX” — GlobalSecurity.org: وصف فني للصاروخ “ستايكس” المضاد للسفن.

Loading

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *