يُعدّ برنامج الأقمار الصناعية الإسرائيلية «أوفيك» – وتعني بالعبرية “الأفق” – واحدًا من أكثر المشاريع الفضائية العسكرية تطورًا وتأثيرًا في الشرق الأوسط. ومنذ انطلاقه في ثمانينيات القرن الماضي، شكّل البرنامج جزءًا جوهريًا من البنية التحتية الاستراتيجية لإسرائيل في مجالات الاستطلاع والاستخبارات الفضائية، مما منحها تفوقًا تقنيًا غير مسبوق في المنطقة.
النشأة والتطور التاريخي
بدأ مشروع «أوفيك» عام 1988 تحت إشراف وزارة الدفاع الإسرائيلية وبالتعاون مع شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI)، التي تولّت تصميم الأقمار الصناعية والصواريخ الحاملة لها. كان الهدف من البرنامج تحقيق اكتفاء ذاتي كامل في مجال الفضاء العسكري، دون الاعتماد على القدرات الأجنبية. وقد تمكّنت إسرائيل بالفعل من دخول نادي الدول القليلة القادرة على تصميم وإطلاق أقمار صناعية محلية الصنع بالكامل.
الإطلاق الأول للقمر أوفيك-1 عام 1988 كان بمثابة خطوة تاريخية جعلت إسرائيل الدولة الثامنة في العالم التي تملك صاروخًا وقمرًا صناعيًا من تصنيعها المحلي. أما الإطلاق الثاني أوفيك-2 عام 1990 فقد فشل في بلوغ المدار، غير أن التجربة ساهمت في تطوير تقنيات التوجيه والتحكم وتحسين الصاروخ الحامل.
ومع القمر أوفيك-3 في عام 1995، دخل البرنامج مرحلة النضج التشغيلي، إذ أصبح أول قمر تجسس عملي لإسرائيل مزودًا بأنظمة تصوير متقدمة. تلت ذلك نسخ متطورة مثل أوفيك-5 و أوفيك-7، اللذين حسّنا من جودة الصور ودقة المراقبة، مؤسسين لمرحلة جديدة من قدرات الاستخبارات الفضائية الإسرائيلية.
الصاروخ الحامل: شافيت (Shavit)
تعتمد إسرائيل في إطلاق أقمارها على سلسلة من الصواريخ المحلية تُعرف باسم شافيت، وهي أيضًا من إنتاج شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI). يمثل هذا الصاروخ العمود الفقري للبرنامج الفضائي الإسرائيلي، ويجسّد تكامل دورة الفضاء الإسرائيلية — من التصميم إلى التصنيع والإطلاق.
صواريخ شافيت صغيرة الحجم وتعمل بوقود صلب في مراحلها الثلاث الرئيسية، مع إمكانية إضافة مرحلة رابعة تعمل بالوقود السائل لتحقيق دقة أو ارتفاعات أكبر. وتُطلق عادة من قاعدة بالماتشيم الجوية الواقعة جنوب تل أبيب، عبر مسار عكسي (ريتروغريد) نحو الغرب، لتجنّب سقوط المراحل فوق أراضي الدول المجاورة. ورغم أن هذا الاتجاه يقلل من كفاءة الدفع ويحدّ من الحمولة، إلا أنه الخيار الوحيد المتاح جغرافيًا وأمنيًا.
قدرة الصاروخ محدودة، إذ لا تتجاوز حمولة 250 إلى 350 كيلوجرامًا إلى المدار الأرضي المنخفض (LEO). ومع ذلك، استطاعت إسرائيل تطوير كفاءة هذه المنظومة تدريجيًا بما يتناسب مع احتياجات أقمار التجسس الصغيرة.
المراحل التقنية والتطور النوعي
خلال تسعينيات القرن الماضي، ركّزت إسرائيل على تحسين قدرات التصوير البصري. وقد مثّل أوفيك-3 و أوفيك-5 نقلة في جودة الصور ودقة تحديد الأهداف، بينما قدّم أوفيك-7 تحديثات في نظام الاتصالات ومعالجة البيانات.
وفي عام 2008، شهد البرنامج تحولًا تقنيًا رئيسيًا مع إطلاق أوفيك-8 (TECSAR-1)، أول قمر صناعي إسرائيلي يستخدم تكنولوجيا الرادار ذي الفتحة الاصطناعية (SAR)، التي تتيح تصوير الأرض ليلًا ونهارًا وفي جميع الظروف الجوية. هذه التقنية مكّنت إسرائيل من مراقبة مناطق واسعة حتى في وجود الغيوم أو الظلام الكامل. تلت ذلك أقمار أكثر تطورًا مثل أوفيك-10، ما عزّز من قدرات الرصد المستمر والاتصال الآمن.
الجيل الحديث من الأقمار أوفيك
في العقدين الأخيرين، حافظ البرنامج على وتيرة متصاعدة من التطوير. أُطلق القمر أوفيك-16 عام 2020، وهو مزود بكاميرات تصوير عالية الدقة وأنظمة معالجة بيانات محسّنة تتيح جمع وتحليل المعلومات بسرعة كبيرة. وقد مثّل هذا القمر تتويجًا لجيل جديد من أقمار المراقبة البصرية عالية الأداء.
أما في عام 2023، فقد أطلقت إسرائيل أوفيك-13، وهو قمر يعتمد كليًا على تقنية الرادار المتطورة، مع تحسينات كبيرة في جودة الصور وقدرته على الرصد في مختلف الظروف البيئية.
وفي عام 2025، أعلنت إسرائيل عن إطلاق أوفيك-19، الذي يُعتبر أحدث أفراد السلسلة وأعقدها تكنولوجيًا حتى الآن. هذا القمر مزوّد بأنظمة رادار عالية الدقة واتصالات مؤمنة بالكامل، مع قدرة على تغطية مناطق شاسعة بسرعة عالية وتحليل بياناتها في الزمن الحقيقي. ويُعتقد أن أوفيك-19 يربط عمليًا بين مهام الرصد والتجسس والاتصالات العسكرية في منظومة واحدة متكاملة.
التحديات والمحدوديات
رغم النجاحات الكبيرة، واجه البرنامج عدة تحديات تقنية ولوجستية، أبرزها:
-
القيود الجغرافية التي تفرض الإطلاق في الاتجاه المعاكس لدوران الأرض، مما يقلل من كفاءة الدفع.
-
محدودية الحمولة القصوى لصاروخ شافيت مقارنة بالصواريخ الكبرى.
-
بعض حالات الفشل الجزئي أو الأعطال في عدد من الأقمار، ما تطلب مراجعات تقنية دقيقة.
لكن إسرائيل تعاملت مع هذه التحديات بتطوير أنظمة تحكم وتوجيه أكثر موثوقية، إلى جانب تحسين تقنيات اختبار الأرض ومتابعة ما بعد الإطلاق.
الأهمية الاستراتيجية
تمثل سلسلة أقمار «أوفيك» اليوم ركيزة أساسية في منظومة الاستخبارات الإسرائيلية، إذ توفر مراقبة مستمرة للمناطق الحساسة مثل إيران وسوريا ولبنان. تُستخدم بياناتها من قبل وحدة الاستخبارات الفضائية المعروفة باسم الوحدة 9900، المسؤولة عن معالجة الصور وتحليلها لدعم القرارات العسكرية والاستخباراتية.
كما يعكس البرنامج قدرة إسرائيل على الاكتفاء الذاتي في مجال التكنولوجيا الفضائية المتقدمة، ما يمنحها استقلالًا استراتيجيًا في جمع المعلومات والتخطيط العسكري بعيدًا عن الاعتماد على الأقمار الأجنبية.
خاتمة
على مدى أكثر من أربعة عقود، نجحت إسرائيل في بناء منظومة فضائية متكاملة ترتكز على أقمار «أوفيك» وصواريخ «شافيت». ومع استمرار عمليات التطوير، خاصة في تقنيات الرادار والاتصالات، تؤكد إسرائيل التزامها بالحفاظ على تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي في المنطقة. يمثل برنامج «أوفيك» اليوم تجسيدًا للتكامل بين العلم والدفاع والصناعة، وأحد أعمدة القوة الاستراتيجية الإسرائيلية في القرن الحادي والعشرين.
المصادر
- بيان صحفي من IAI ووزارة الدفاع الإسرائيلية يعلن عن نجاح الإطلاق ودخول المدار.
- تقرير من Defence Industry Europe يصف تفعيل رادار القمر ومراحل التأكد من الأنظمة بعد الإطلاق.
- الموقع الرسمي الحكومي الإسرائيلي يعلن الإطلاق الرسمي للقمر.
- تقرير مفصّل من IsraelDefense عن العملية التقنية والاستراتيجية للقمر.
- تقرير عن إطلاق Ofek-13 وتفاصيله، كمثال على الأجيال السابقة من الأقمار في السلسلة.
- تقرير يوضح إطلاق Ofek-16 واستخدام صاروخ Shavit في ذلك.
- تحليل من موقع Défence Redefined عن قدرات القمر وتكنولوجياته المتوقّعة.
- تقرير إخباري عن تنشيط الرادار الأول وتنزيل الصور للمحطة الأرضية داخل إسرائيل.
![]()

