في عالمٍ تتسارع فيه التهديدات الجوية وتتزايد الحاجة إلى أنظمة دفاع متطورة، برزت المنظومة الألمانية IRIS-T SLM كأحد أبرز الحلول في فئة الدفاع الجوي متوسط المدى. وتندرج هذه المنظومة ضمن عائلة IRIS-T للدفاع الجوي، التي تضم ثلاث نسخ رئيسية بمديات مختلفة، تم تصميمها لتشكيل درع متعدد الطبقات ضد التهديدات الجوية المختلفة.
بدءًا من النسخة قصيرة المدى IRIS-T SLS التي يصل مداها إلى نحو 12 كيلومترًا، مع قدرة اشتباك حتى ارتفاع 8 كيلومترات، وتُستخدم للتصدي للطائرات والمروحيات والطائرات المسيّرة وصواريخ الكروز، وتضم كل بطارية ثلاث قواذف متنقلة، كل منها يحمل 8 صواريخ، بالإضافة إلى رادار قصير المدى ووحدة قيادة وتحكم، وتستطيع الاشتباك مع 8 أهداف في آنٍ واحد.
أما النسخة المتوسطة IRIS-T SLM، فهي تأتي بمدى رسمي يبلغ 40 كيلومترًا وارتفاع اشتباك يصل إلى 20 كيلومترًا، مع قدرة متقدمة على التصدي للطائرات المأهولة والمسيّرات وصواريخ الكروز ، وتضم البطارية رادار TRML-4D من نوع AESA بمدى كشف يتجاوز 120 كيلومترًا وقدرة تتبّع حتى 1500 هدف، إلى جانب ثلاث قواذف متنقلة (عادة على شاحنات MAN 8×8)، كل منها يحمل 8 صواريخ، ووحدة قيادة وتحكم ، وتستطيع البطارية الاشتباك مع 12 هدفًا في وقت واحد بدقة عالية.
وتُعد النسخة الثالثة IRIS-T SLX، التي ما تزال قيد التطوير، امتدادًا طويل المدى للمنظومة، بمدى متوقع يتجاوز 80 كيلومترًا وارتفاع اشتباك يصل إلى 30 كيلومترًا، مع قدرات موجهة نحو التصدي للمقاتلات الشبحية والصواريخ الباليستية المتقدمة، ومن المتوقع أن تتضمن البطارية رادارًا بعيد المدى وقاذفات جديدة ووحدة قيادة وتحكم محسّنة.
ورغم هذه الإمكانيات التقنية العالية، فإن القصة الكاملة لصعود هذه المنظومة إلى قمة الساحة العالمية لا تكتمل دون التوقف عند محطة مفصلية: صفقة التصدير الأولى لمصر، لكن قبل أن نخوض في تفاصيل صعود منظومة IRIS-T، لا بدّ أن نستعرض أولًا رحلة صعود مقاتلة “رافال”، لما لها من دلالات تمهّد لفهم السياق الأوسع لتوجّه القاهرة الدفاعي، وتأثيرها المباشر على سمعة السلاح عالميًا.
رافال: مشروع فرنسي طموح يتأخر في الإقلاع
في ثمانينيات القرن الماضي، واجهت فرنسا تحديًا استراتيجيًا بعدما انسحبت من برنامج الطائرة الأوروبية المشتركة Eurofighter Typhoon.
سريعًا أطلقت فرنسا مشروع وطني مستقل لتطوير مقاتلة متعددة المهام، عُرفت لاحقًا باسم “رافال”. بدأت شركة داسو للطيران تطوير المقاتلة في عام 1985، ونفذت أول رحلة تجريبية لطائرة “رافال A” في يوليو 1986. استمر العمل على تحسين وتطوير التصميم حتى دخلت المقاتلة الخدمة رسميًا في سلاح الجو الفرنسي عام 2001، ثم في البحرية الفرنسية عام 2004.
من طائرة محلية إلى منافس شرس
رغم محاولات فرنسا المستمرة لتسويق مقاتلة “رافال” عالميًا، لم تُبرم أي صفقة تصدير حتى عام 2015، حين وقّعت مصر أول عقد خارجي للحصول عليها، لتُصبح بذلك أول دولة تُشغّلها خارج فرنسا. وقد مهّدت هذه الصفقة الطريق أمام دول أخرى مثل قطر والهند واليونان وكرواتيا والإمارات لاتخاذ خطوات مماثلة. وقد عكَس هذا القرار المصري قدرة القاهرة على استشراف الجدوى العملياتية لمنظومات لم تكن قد حازت بعد على اعتراف دولي واسع، في رهان مبكر أثبت نجاحه لاحقًا.
القصة تتكرر: IRIS-T تسير على خُطى الرافال
كما حدث مع مقاتلة “رافال”، تكررت القصة مع المنظومة الألمانية IRIS-T SLM. فقد بدأت شركة Diehl Defence في عام 2007 مشروع تحويل صاروخ IRIS-T الجوي إلى نسخة تُطلق من الأرض، وأُنجز تطوير النظام بين عامي 2014 و2016. وفي عام 2018، بادرت مصر بتقديم طلب للحصول على المنظومة، في خطوة استباقية تُعيد إلى الأذهان تحركها المبكر تجاه “رافال”.
الرهان المصري يسبق الجميع
رغم أن الجيش الألماني لم يكن قد بدأ في تشغيل المنظومة فعليًا حتى عام 2024، فإن مصر كانت أول من منحها فرصة إثبات الذات. ففي عام 2019، وقّعت القاهرة عقدًا للحصول على 7 بطاريات IRIS-T SLM، إضافة إلى 400 صاروخ، بعد أن كانت قد طلبتها في العام 2018. وقد أجرت اختبارات ميدانية متقدمة على المنظومة في بيئتها الصحراوية أواخر 2021، شملت تجارب رماية حية وتكاملًا مع الرادارات.
وفي عام 2021، وافقت ألمانيا على توسيع الصفقة بإضافة 10 بطاريات من النسخة SLX طويلة المدى، و6 بطاريات من النسخة SLS قصيرة المدى.
من الصحراء المصرية إلى سماء أوكرانيا
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، دخلت أوروبا في سباق محموم لتأمين احتياجات كييف الدفاعية في مواجهة الهجمات الجوية الروسية المتصاعدة. وفي ظل النقص الحاد في أنظمة الدفاع الجوي متوسطة المدى، برزت منظومة IRIS-T SLM كأحد الخيارات القليلة الجاهزة فعليًا للتسليم الفوري.
وفي هذا السياق، توصلت الحكومة الألمانية إلى تفاهمات سريعة مع مصر، التي كانت تستعد لاستلام عدد من بطاريات IRIS-T SLM ضمن عقد سابق، وكانت بعض الوحدات قد أصبحت جاهزة للتسليم. وبموجب هذا التفاهم، وافقت القاهرة على تحويل هذه البطاريات الجاهزة إلى أوكرانيا بشكل عاجل، على أن يتم تعويض مصر لاحقًا ببطاريات جديدة من نفس الطراز، وفق جدول تسليم محدث، وبما يشمل تعويضًا مرضيًا عن التأخير الناتج في تسليم المنظومة.
الاختبار الحقيقي في ساحة المعركة
ومن هنا، بدأت شهرة IRIS-T SLM بالصعود، بعد أن أثبتت فعاليتها في إسقاط عشرات الأهداف أسبوعيًا، منها طائرات مسيّرة وصواريخ كروز. وفي يوليو 2025، أعلنت سفيرة أوكرانيا لدى ألمانيا أن منظومة IRIS-T SLM نجحت لأول مرة في اعتراض صواريخ باليستية روسية داخل الأراضي الأوكرانية، في إنجاز غير مسبوق يُعد تحولًا استراتيجيًا في قدرات المنظومة الدفاعية الألمانية، التي كانت تُعرف أساسًا بكفاءتها في التصدي للطائرات وصواريخ الكروز والمسيّرات. هذا الإعلان مثّل دليلًا عمليًا على تطور أداء المنظومة وتوسيع قدراتها ضد تهديدات أكثر تعقيدًا.
صفقات تتوسع… واهتمام عالمي
نجاح النظام في أوكرانيا أشعل موجة اهتمام عالمي، وتحوّلت IRIS-T SLM إلى نجم سوق الدفاع الجوي الأوروبي: فتعاقدت عليها كل من بلغاريا، سلوفينيا، سويسرا، السويد، بالإضافة إلى لاتفيا وإستونيا، كما تتفاوض دول أخرى مثل رومانيا، النمسا، ليتوانيا، الدنمارك، وصربيا على صفقات محتملة.
إعلان ألماني متأخر
في 4 سبتمبر 2024، أعلنت ألمانيا رسميًا دخول IRIS-T SLM الخدمة الفعلية، خلال احتفالية في تودندورف بحضور المستشار أولاف شولتس ووزير الدفاع بيستوريوس. وتم تسليم النظام إلى وحدة الدفاع الجوي الصاروخي رقم 61، ضمن برنامج التحول الدفاعي التاريخي الذي تبنّته برلين عقب حرب أوكرانيا. أي أنها دخلت الخدمة في الجيش الألماني بعد دخولها إلى خدمة الجيش المصري والأوكراني.
الدقة في التقدير… حينما تستثمر مصر فيما سيثق به العالم لاحقًا
ما يميز الصفقة المصرية ليس فقط أنها سبقت الجميع زمنيًا، بل تكمن أهميتها في دقة التقدير الاستراتيجي. فقد تبنّت القاهرة منظومة IRIS-T SLM في مرحلة مبكرة، حين كانت لا تزال قيد التقييم داخل ألمانيا، وأسهمت عمليًا في إدخالها إلى ساحة العمليات الحقيقية من خلال استخدامها في أوكرانيا.
ولم يتوقف الطموح المصري عند ذلك، بل امتد ليشمل النسخة طويلة المدى (IRIS-T SLX)، حيث وقّعت مصر على شراء 10 بطاريات منها، رغم أنها لا تزال في مرحلة التطوير ومن المقرر دخولها الخدمة بحلول عام 2028 في خطوة تؤكد الرؤية الاستباقية والثقة العميقة بقدرات المنظومة المستقبلية.
مصر لا تشتري بالأكثر شهرة أو مبيعًا… بل بمعايير تكنولوجية محسوبة
من طائرات الرافال إلى IRIS-T، أثبتت القاهرة أنها لا تتبع السوق العسكري، بل تصنع توجهاته. ومع تزايد التحديات الأمنية عالميًا، تُعد هذه الخطوات مؤشرات على تطور العقيدة الدفاعية المصرية، التي تجمع بين المبادرة المبكرة والرهان المحسوب على تكنولوجيا المستقبل.
![]()

